فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (62):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [62].
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} أي: بالصلح لتكف عنهم ظاهراً، وفي نيتهم الغدر: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ} أي: كافيك بنصره ومعونته.
قال مجاهد: يريد قريظة.
ثم علل كفايته له، بما أنعم عليه من تأييده صلى الله عليه وسلم بنصره وبالمؤمنين، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: يوم بدر بعد الضعف، من غير إعداد قوة ولا رباط: {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

.تفسير الآية رقم (63):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [63].
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمع بين قلوبهم وكلمتهم، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم، بعد ما كان فيها العصيبة والضغينة {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} أي: من الذهب والفضة {مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر، لكونه من عالم الغيب {وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} أي: بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه، {إِنَّهُ عَزِيزٌ} أي: غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن {حَكِيمٌ} أي: فاقتضت حكمته ذلك، لما فيه من تأييد دينه، وإعلاء كلمته.
قال الزمخشري- رحمه الله تعالى-: التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الآيات الباهرة، لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية، والإنطواء على الضغينة في أدنى شيء، وإلقائه بين أعينهم، وإلى أن ينتقموا، لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتواد، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد.
وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم، ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن، ويديم التحاسد والتنافس.
وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها، وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله، حتى اتفقوا على الطاعة، وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً وما ذاك إلا بلطيف صنعه، وبليغ قدرته. انتهى.
وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه. كذا في العناية.
أقول: لكن شهرة ما كن بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده، واستحال قبل البعثة نضوب مائه، يصلح أن يكون قرينة. ونقل علماء السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج، ودعاهم إلى الله تعالى. فأجابوه وصدقوه، قالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. رواه ابن إسحاق وغيره.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين، قال لهم: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي»؟ كلما قال شيئاً قال: «الله ورسوله أمنّ».
لطيفة:
روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم يقرأ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْض} الآية.
وعند البيهقي نحوه. وقال موجود في الشعر:
إذا بتّ ذو قربى إليك بزلة ** فغشك واستغنى فليس بذي رُحْم

ولكن ذا القربى الذي إن دعوته ** أجاب، وأن يرمي العدو الذي ترمي

قال: ومن ذلك قول القائل:
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم ** وبلوت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ** وإذا المودة أقرب الأسباب

قال البيهقي: لا أدري هذا موصولاً بكلام ابن عباس، أو هو قول من دونه من الرواة.
قال الرازي: احتج أصحابنا بهذه الآية، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات، كلها من خلق الله تعالى، وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلى الله عليه وسلم عند مخادعة الأعداء، في الآية المتقدمة، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقاً، فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (64):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [64].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال العلامة ابن القيم في مقدمة زاد المعاد في تفسير هذه الآية: أي: الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا يحتاجون معه إلى أحد.
ثم قال: وهاهنا تقديران:
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة لمَنْ على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، على المذهب المختار، وشواهد كثيرة، وشُبه المنع منه واهية.
والثاني: أن تكون الواو واو مع، وتكون من في محل نصب عطفاً على الموضع فإن حسبك في معنى كافيك، أي: الله يكفيك، ويكفي من اتبعك، كما يقول العرب: حسبك وزيداً درهم، قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ** فحسبك والضحاك سيف مهند

وهذا أصح التقديرين. وفيها تقدير ثالث، أن تكون من في موضع رفع بالإبتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله.
وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن يكون من في موضع رفع عطفاً على إسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك.
وهذا، وإن قال به بعض الناس، فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة.
قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله؟ هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. ونظير هذه قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه}، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده. كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَالفاسد َإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب، لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود، لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فالحسب هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أبتاعه مع الله في هذه الكفاية؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد، أكثر من أن نذكرها هنا. انتهى.
قال الخفاجي في العناية: وتضعيفه الرفع لا وجه له، فإن الفراء والكسائي رجّحاه، وما قبله وما بعده يؤيده. انتهى.
وأقول: هذا من الخفاجي من الولع بالمناقشة، كما هو دأبه، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيم وأيده بما لا يبقى معه وقفة لما ضعفه، والفراء والكسائي من علماء العربية، ولأئمة التأويل فقه آخر، فتبصر ولا تكن أسير التقليد.

.تفسير الآية رقم (65):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [65].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: حثهم: {عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}.

.تفسير الآية رقم (66):

القول في تأويل قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [66].
{الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
في الآية مسائل:
الأولى: مشروعية الحض على القتال، والمبالغة في الحث عليه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه عند صفهم، ومواجهة العدو، كما قال لهم يوم بدر، حين أقبل المشركون في عددهم وعُددهم: «قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض»، فقال عمير بن الحمام: عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»! فقال: بخٍ بخٍ، فقال: «ما يحملك على قولك بخ بخ»؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. قال: «فإنك من أهلها». فتقدم الرجل، فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن، إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
الثانية: ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفا} شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي: بألا يفر منهم.
روى البخاري عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين.
وفي رواية أخرى عنه قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} الآية، فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص عنهم من الصبر، بقدر ما خفف عنهم.
قال في اللباب: فظاهر هذا أن قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} ناسخ لما تقدم في الآية الأولى، وكان هذا الأمر يوم بدر، فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين، فثقل ذلك على المؤمنين، فنزلت: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} أيها المؤمنون {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} يعني في قتال الواحد للعشرة، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله. فرد العشرة إلى الإثنين، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز لهم أن يفروا، فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فرَّ من اثنين فقد فرّ. انتهى.
قال في العناية: وذهب مكي إلى أنها مخففة لا ناسخة، كتخفيف الفطر للمسافر. وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة، فقتل، هل يأثم أو لا؟ فعلى الأول يأثم، وعلى الثاني لا يأثم.
وقال الرازي: أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية، وقال: الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر، أي: إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين، فليشتغلوا بمقاومتهم.
ثم دل قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم، فلم يكن التكليف لازماً عليهم.
وبالجملة، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة، فلم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا فلا نسخ، ولا يقال إن قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ} مشعر بأن هذا التكليف كان متوجهاً عليهم قبله، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى في ترخيصه للحرّ في نكاح الأمَة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم} وليس هناك نسخ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر، فكذا هاهنا.
ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ، لا يجوز إلا بدليل قاهر.
قال الرازي: بعد تقرير كلام أبي مسلم: إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم على حصول النسخ في الآية، فلا كلام عليه، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن. انتهى.
الثالثة: في قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار، فالظرف متعلق بـ: {يَغْلِبُوا} أي: بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً لأمر الله تعالى، وإعلاءاً لكلمته، وابتغاءاً لرضوانه، كما يفعله المؤمنون، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، واتباع خطوات الشيطان، وإثارة نائرة البغي والعدوان، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان. أفاده أبو السعود.
الرابعة: قال الرازي: احتج هشام على قوله: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها، بقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللُّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} إذ يقتضي أن علمه يضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت.
وأجاب المتكلمون بأن معناه: الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العمل بأنه سيقع أو سيحدث. انتهى.
وقال الطيبي رحمه الله: معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى، أي: كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم.
الخامسة: في الضعف لغتان: الفتح والضم، بهما قرئ. وهو يؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن. وقيل: الفتح في الرأي والعقل، الضم في البدن. وهو منقول عن الخليل وقرء: {ضعفاء} بصيغة الجمع.
السادسة: إن قيل: إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى، وثبات الواحد للإثنين في الثانية، فما سر هذا التكرير؟
أجيب: بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الإطمئنان، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة، لا تتفاوت، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين، وتغلب المائة الألف، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي.
قال في الفتح: وقد قيل في سر ذلك: إن بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
السابعة: قال في البحر: انظر إلى فصاحة هذا الكلام، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر، وحذف نظيره من الثانية، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه، ثم ختمت بقوله:
{وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} مبالغة في شدة المطلوبية، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر، اكتفاءاً بما قبله.
قال الشهاب: هذا نوع من البديع يسمى الإحتباك، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف {بِإِذْنِ اللّهِ} وهو قيد لهما، وقوله: {وَاللَّهُ معَ الصَّابِرِينَ} إشارة إلى تأييدهم، وأنهم منصورون حتماً لأن من كان الله معه لا يغلب.
وبقي فيها لطائف، فللّه درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته! وأنضر رونق بلاغته!